هناك تصوّر شائع عن مَن يتحدث عن الحرية، أنه شخص ذو شعر طويل ووشم. هذه حرية شخصية بكل تأكيد، ولكن يمكنني ممارستها في مصر. صحيح سأواجه نظرات السخط من الكثيرين، لكني أقدر عليها على أيّة حال. إنما الحرية التي أفتقدها في مصر شيء آخر.
لأكثر من مرة كانت صراعاتي مع أسرتي تتزايد، فلا يجوز معها اعتمادي عليهم فيما يتعلّق بمصروفاتي، فيتحتم عليّ العمل، الذي دائماً ما يكون مأساة. كنت أُرفَض في كثير من الوظائف بسبب تلعثمي، وفي المرات التي قُبلت فيها انتهى الأمر إمّا بشجار مع صاحب العمل المتسلّط، أو بتعرّضي للنصب. ولكن لنركّز على سلوك أصحاب العمل دون النصب، فهذا أكثر ما يؤلمني.
إن أصحاب العمل يكرهون أن يجدوك جالساً لا تفعل شيئاً؛ وما إن يحدث ذلك حتى يختلقوا لك مهمة من العدم. قيل لي ذات مرة: "قاعد ليه؟ متقعدش عشان أديك يومية"، وقيل في سياق آخر صراحةً: "أنت شغّال عندي ليه؟ مش عشان تشقى وتتعذب؟". لماذا نتغاضى عن الحديث عن ذلك؟ نحن نتقبل الأمر وكأنه فرض لا مفر منه. لقد خلقنا الله أحراراً، ولا يحق لأيّ ابن آدم أن يُمتهننا. ناهيك عن عجرفة الزبائن وتصورهم أنك مُسخّر لخدمتهم، دون اعتبار لآدميتك واحترامك لنفسك.
كنت أظن أن العمل التقليدي فقط هو ما يحدث فيه ذلك، حتى عملت في مركز ثقافي، فوقعَت أمور مشابهة من قبل مدير المكان. واكتشفت بمرور الوقت أن العاملين في مجال السينما يتعرّضون للإهانة أكثر ممن يعملون في الوظائف التقليدية، عكس ما كنت أتصور. كنت أظن أن الفنانين سيكونون بالضرورة نبلاء مهذّبين، لكني كنت مخطئاً؛ فقد اتضح أنهم أكثر الناس بطشاً. ولطالما سمعنا عن حوادث المخرجين، تَسَلُّطِهم وتجبرهم. ونحن نسكت على هذا أيضاً وكأنه أمر طبيعي، بل إنني سمعتُ إحداهن ذات مرة تعلّق على أن أحد المخرجين كان شديد الحدة مع فريق العمل أثناء التصوير، فقالت: "حقه… ما هو عامل فيلم جامد"!
ولما حاولت العمل بشكل مستقل، بأن أعددتُ ورشة لتعليم الكتابة، ثم برامج تشمل نادي سينما ونادي كتاب وجلسات كتابة فردية، واجهت صعوبات أيضاً. لن أخفيكم سراً في البداية كنت أفكر بطريقة رأسمالية استهلاكية، ما دفعني لوضع سعر مرتفع جداً للورشة، لكني سرعان ما تراجعت، وقررت أن تكون أسعار برامجي رخيصة أيّما رخص؛ قررت أن أحصّل فقط ما أحتاج إليه، دون طمع. ورغم ذلك لم يهتم الناس بما أنظم. قد أكون غير جيد بما يكفي، وهذا سبب مرجّح، لكني أظن أن الأمر متصل بمسألة أخرى.
في طفولتي كنا كأسرة نخرج للتنزّه، نأكل جيلاتي أو نزور حديقة الحيوان. كان للترفيه مكان في حساباتنا. لكن مؤخراً اختفى كل ذلك لدى الكثير من الأسر. حتى الأغنياء يقضون أوقاتاً ممتعة، ولكن ليس مع بعضهم البعض كأسرة، ما يشير إلى فقدان الحميمية والمودة بين أفراد الأسرة الواحدة.
أما الفقراء ومتوسّطو الدخل، وهم الغالبية العظمى من الشعب، فسبب عدم اهتمامهم بالترفيه يرجع إلى الضغوطات التي سلبتهم حق الاستمتاع بالحياة، وبالتالي اختفى من حياتهم الاهتمام بالثقافة والفنون. إنهم مفرومون في طاحونة الاحتياجات الأساسية، فلا وقت لديهم ولا طاقة -بسبب ما يتعرضون له في العمل من تسلط وضغط نفسي أيضاً- لحضور فعاليات ثقافية أو تعلم الكتابة.
هذه هي الحرية التي أشعر أنني أفتقدها: أفتقدها حين تضيق بي الدنيا فلا أستطيع العمل في وظيفة تقليدية بكرامة لتلبية احتياجاتي، وحين أحاول العمل في مجالي فأجد مزيداً من التجبّر وبركاناً من الطبقية، ولا أجد في المقابل اهتماماً من الجمهور متوسط ومحدود الدخل الذي أخاطبه بالفنون والترفيه.
لكن… ما سبب كل ذلك؟
أظنها التربية. التربية هي التي تدفع الناس لأن يصبحوا متسلّطين، بسبب تعرضهم للتسلّط والقهر المنظّمين من أهلهم في المقام الأول، ثم من المجتمع. وما الذي يدفع الآباء نحو التربية غير السوية؟ هل هو الفقر؟ لا. فالأغنياء أيضاً يتجبرون على أبنائهم والعاملين معهم، وذلك سبب فقدانهم للحميمية والأجواء الأسرية الدافئة. وكثير من الفقراء تجدهم حنونين ومتفهّمين.
هل هو الجهل؟ ولا أقصد هنا عدم القدرة على القراءة أو الكتابة، وإنما نقص الوعي وقصور الثقافة. نعم… ولكن ما السبب في هذا الجهل؟ التعليم؟ التعليم وحده؟ وما السبب في ضعف التعليم في مصر؟ أو بالأحرى: ما سبب انعدام قيمته؟
هل كنا كذلك في الماضي؟ قبل مئة عام؟ مئتي؟ ثلاثمائة؟ لقد كنا من أعظم البلاد وأكثرها تقدماً وأغناها حضارةً. ماذا حدث لنا؟ ماذا حدث لنا بخصوص الحرية تحديداً؟
لقد قمنا بالعديد من الثورات، خاصة في العصور الحديثة: مثل ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الاستعمار الفرنسي، وثورة عرابي ضد الخديوي توفيق، وثورة 1919 ضد الإنجليز، وثورة 25 يناير ضد نظام مبارك. هل الثورة مقياس الإيمان بالحرية؟ هل الثورة هي الحل؟ هل المشكلة في النظام الحاكم أصلاً؟ لقد قام الشعب بثورة ولم يتغير شيء، بل ازددنا تدهوراً اقتصادياً وتأخراً حضارياً. ربما المشكلة أعمق من الأنظمة.
لست أعرف ما الحل، لكني متأكد من أنني مسجون في بلدي، غير متمتع بحريتي. للحرية صور وأوجه عديدة، ولكني تأثرت بما حدث لي فيما يتعلق بالعمل والاستقلال المادي. فالاستقلال المادي هو أول خطوات الحرية، ولما عجزت عن تحقيقه مرات ومرات، شعرت بالقيود الغليظة تكبّلني.
في حين أشاهد في الأفلام الأجنبية أشخاصاً يتركون وظائفهم ويعملون في وظائف بسيطة؛ نادلاً في مطعم، أو بائعاً في محل. يفعلون ذلك ببساطة شديدة أغبطهم عليها. إنهم يعيشون حرية أتوق إلى مثلها. الحرية ليست فقط التعبير عن الرأي، وليست فقط الرفض والغضب والثورة. الحرية أن تستطيع أن تحيا كيفما تشاء؛ أن يكون لديك الوقت والطاقة لتتمتع بالحياة، لا أن تعيش في سلسلة من الضغوط اللانهائية.
هذه هي الحرية… كما عرفتها.
تم.
اكتبوا لنا آراءكم في التعليقات.
