يوم آخر في معهد السينما - قصة قصيرة

يوم آخر في معهد السينما
* * *

كرهتُ النوم بعد أن كان صديقي الوحيد. فيما مضى كنتُ أهرب إليه من واقعي المؤلم. الآن أريد أن أبقى مستيقظًا على الدوام. أنام مُضطرًا لأن جسدي وعقلي لا يقدران على الصمود أكثر من ذلك. أضطجع وكلي توقٌ إلى اليوم التالي، يومٌ آخر في حياة اخترتُها بإرادتي، يوم آخر في معهد السينما.

في الثامنة صباحًا استيقظتُ. إفطارٌ سريع لن يُغنيني عن إفطار آخر بعد المحاضرة، مع كوبٍ من القهوة غنيٍّ بالسكر. تحركتُ في الثامنة والنصف، ومشيتُ حتى مول عجمي ستار حيث محطة انتظار سويفل. كان موعده في التاسعة إلا ربع. قضيتُ الدقائق متفكرًا في اللحظة التي سأُخبر فيها السائق بالكود الخاص بي حتى يُسجّل حضوري. كالعادة تُربكني المواجهات ولو كانت تافهة كهذه. وكالعادة كنتُ أخشى أن أقابل إحدى بطلات مراهقتي المريرة في الأوتوبيس أثناء ذهابهن إلى كلياتهن؛ أخشى مقابلتهن وأتمناها في الوقت نفسه! ولكن شيئًا مما خفتُ منه لم يحدث.

قرأتُ فصلًا جديدًا من رواية قلب الليل المقرّرة علينا، تلك المتاهة الساحرة التي أذابتني بداخلها لأيام. وفي الخلفية موسيقى فيلم Interstellar بإيقاعٍ وصوتٍ هادئين مناسبَين للقراءة. أجمل ما في دراسة الكتابة هو أن هواياتك تتحول إلى مذاكرة؛ القراءة والمشاهدة والاستماع للموسيقى، كل شيء كنتَ تفعله من أجل الاستمتاع في وقت الفراغ أضحى العمل كل العمل.

يا الله، كيف استطاع نجيب محفوظ أن يتغلغل داخل الشخصية إلى هذا الحد وكأنه يعيش بداخلها؟ كم يشبهني جعفر الراوي! كم هو متناقضٌ مثلي؛ يجمع بين الضعف والتحدي.

الآن الفقرة المفضلة: حين ينعطف الأوتوبيس عند نفق الشاطبي الأول، فيظهر البحر لأول مرة. تعمّدتُ أن أجلس جهة اليسار داخل الأوتوبيس حتى أكون مواجهًا للبحر حين يظهر. ما أجمل مشهد البحر صباحًا داخل سيارة تتحرك بك مع أغنية إيه في أمل لفيروز! نشوةٌ مدغدغة تسكرك للحظات. والأجمل حين تكون في طريقك إلى الحرية، إلى المكان الذي اخترتَه بإرادتك، وحاربتَ من أجله.

وصلتُ أكاديمية الفنون في لوران في التاسعة والنصف. كان اليوم شبه إجازة لبقية المعاهد: معهد الباليه والموسيقى والفنون المسرحية، لذلك لم يكن هناك أحد في المبنى سواي وبعض العمال والموظفين. اعتدتُ أن أسترق التدريب على عزف البيانو مؤقتًا حتى أستطيع شراء أورج، فيمكنني اللعب عليه في المنزل وقتما أشاء. أنشودة إيزيس، المقطوعة الوحيدة التي أحفظها، كم هي ساحرة! ولكن أصابعي تختلج مرتعشة. لعن الله المهدئات؛ لولا الحرب التي خضتها من أجل السينما لما احتجتُ إلى أدوية مهدئة، أو ربما كنتُ أحتاج إليها منذ زمن، ولم تكن الحرب سوى مجرد مُثير.

سمعتُ صوتًا آتيًا من الخارج فتوقفتُ عن العزف فورًا. رغم أنني أحب أن أُبرز مهاراتي ـ كأي شخص طبيعي يحب أن يحصل على التقدير والإعجاب ـ إلا أنني دائمًا ما أخشى أن أحصل عليهما! أريدهما بشدة، ولكن ما إن يقتربا حتى أنسحب وأهرب. أخاف منهما، لا أدري لماذا.

كان الآتي هي معلمتنا، دكتورة داليا شوقي. سلّمتُ عليها مُقاومًا توترًا لاحظته عليّ فاضطربت بدورها، لعنة الله على الخجل. سألتني عن بقية زملائي فقلتُ لها إنهم قد يصلون خلال دقائق. غيرها من الأساتذة كان سيغضب إذا جاء فلم يجد سوى طالب واحد، ولكن دكتورة داليا ذات شخصية قوية؛ حتى وإن جاءت فلم تجد أي طالب، لم يكن ذلك ليهز ثقتها بنفسها. إنها تعلم أنها معلمة جيدة ومحترمة، وأن مكانتها لا يمسّها أمر حضور الطلاب من عدمه. ولذلك قررت أن تبدأ المحاضرة معي بمفردي في موعدها دون انتظار القادمين.

كان غيري سيسعد بذلك، أما أنا فلا؛ فحين يصبح التركيز كله عليّ أزداد توترًا. لا أعرف ماذا أفعل أثناء حديث الطرف الآخر؟ أين أنظر حين ينظر إليَّ؟ كيف أُعبّر؟ هل يبدو عليّ التوتر؟ هل لاحظتْ أنني منشغل بالتركيز على ردود أفعالها وأفعالي أكثر من تركيزي على ما تشرحه؟

– تفتكر إيه هو موضوع قلب الليل؟ كلمة واحدة؟

باغتتني بسؤالها، ولكني قلتُ باندفاع ودون تفكير:

– الحرية؟

– بررافوو!

أثلجت صدري بهذه الـ“بررافوو”. يا الله! لم أفكر في الإجابة حتى؛ خرجت الكلمة من فمي دون إرادة تقريبًا. نعم، هي الحرية؛ هي المركب الموضوعي الذي تتلاقى عنده الحتمية التاريخية والحتمية البيولوجية والحتمية الأيديولوجية.

جاء صديقي كريم متأخرًا إلى حد بعيد، لكنها سمحت له بالحضور على أي حال دون أن تقول له حتى كلمة توبيخ واحدة. ما يُميز معهد السينما عن الكليات الأخرى ـ أو عما شهدته في كل المراحل التعليمية السابقة ـ هو أن الأستاذ لا يتحداك؛ في غير المعهد يتعامل الأستاذ وكأن انضباطك واجتهادك أمر يخصه شخصيًا، ويتلذذ حين تخطئ فيخصم منك درجات. ولكن في معهد السينما الجميع آتٍ بإرادته، الجميع محب للتعلم، الجميع يتمتع بالحرية الكاملة؛ فمن يتأخر أو لا يحضر هو الخاسر. الجميع سينجح على أي حال، إنه نهج جميع الأساتذة، ولكن التحصيل المعرفي أمر عائد إليك، ومتوقف عليه جودة عملك في المستقبل.

انتهى اليوم الدراسي. نعم، لقد جئت من العجمي إلى لوران من أجل محاضرة واحدة، ولقاء صديق واحد، هو الوحيد المقرب إليّ من بين جميع الزملاء. جميعهم مختلطون ببعضهم البعض فيما عداي تقريبًا، لأسباب متعلقة بانخفاض مستوى اجتماعيتي حدّ شبه التوحد! وكان من الجيد ألا أحد حضر سواه؛ فحين أجلس مع الشخص بمفردي لا يكون أمامه خيار سوى التحدث إليّ، بينما لو جلس معنا آخرون سأكون غير مرئي طوال وقت الجلسة، وسيقتصر حضوري على هزّ الرأس بالإيجاب والـ“أممم”.

اشترينا سندوتشات فول وفلافل وشربنا شايًا على المقهى. ثم سألني عن رأيي في رواية قلب الليل. ما يُميز كريم أنه يعنى بأمورك الشخصية؛ فيسألك عن رأيك وتحليلك وما تفكر به، لا أن يتحدث معك محادثات سطحية لا تُشبع ولا تُغني عن حاجة إلى التواصل. وطال حديثنا عن الرواية وما اتصل بها من أحاديث أخرى حول الحرية، مفهومها وأبعادها، ومدى تمتعنا بها في مصر الجميلة! حتى وصلنا إلى نقطة تحتم علينا إنهاء الحديث عندها خوفًا من وجود مخبرين في المقهى من حولنا.

انتهى لقاؤنا، وركبتُ أوتوبيس سويفل آخر أوصلني إلى المنزل، قرأت خلال الطريق فصلاً آخر من رواية قلب الليل. وعند عودتي للمنزل استمعتُ ـ على رغمي ـ إلى أحاديثهم المملة حول الحرام والحلال وواجبات المرأة تجاه زوجها. كدتُ أتقيأ من بشاعة آرائهم وتشوهها، ولكن كان عليَّ أن أتحمّل حتى أنتهي من تناول طعام الغداء، فيتسنى لي الدخول إلى غرفتي ووضع سماعتيّ الأذن؛ لأن احتياجي إلى الأموال يحتم عليّ التظاهر بعدم النفور منهم، تلك القيود الوحيدة في حياتي الآن، والتي آمل أن أتحرر منها قريباً. 

حصلتُ على مصروفات الغد، وملأتُ بطني بماء البطيخ عقب الغداء، فتعاون الماء مع المهدئ وقدرا على تنويمي بسرعة، على أن أستيقظ في يوم آخر في معهد السينما، يوم آخر للتمتع بمزيد من الحرية.

(اقرأ: الحرية.. كما عرفتها)

النهاية.

جميع نصوص المدونة مسجلة لدى إدارة حقوق المؤلف، ويحظر نشرها أو استخدامها دون إذن مؤلفها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال