حاجات جوايا.. جزء آخر من سيرة لم تكتمل بعد

حاجات جوايا
* * *

أكتب منذ يناير ٢٠٢٠م. قبل ذلك كانت الكتابة موجودة في حياتي ولكني لم أكن أهتم بها بالقدر الكافي، كنت آمل أن أصبح طبيباً حسب رغبة أبي. أذكر أن أم زميل لي في المدرسة وصفتني بـ الأديب، لما لاحظته من أسلوب قوي ظهر في موضوع تعبير كتبته، ولم يعجبني هذا الوصف، قلت في نفسي: "أديب؟ أي أديب؟ سأكون طبيباً!". 

والحق أن ثقتي في نفسي كانت شبه منعدمة، خاصة في ظل ما كنت أتعرض له في المدرسة من تنمر، لأني صغير الحجم نحيف، ذو ملامح طفولية، أو (صغنن) كما وصفتني فتاة أعجبت بها في المراهقة. ولكن ما إن حققت إنجازاً عظيماً - بالنسبة لي ولأبي - بأن حصلت على مجموع كبير في الثانوية العامة حتى بدأت أثق في نفسي وأحبها، وما إن أحببتها حتى ثرت على كل شيء كنت مؤمناً به. وأهم الأشياء كانت دراستي وتصوري لحياتي في المستقبل. 

فيما مضى كان حبي للفنون وشغفي بها حاضراً طوال الوقت، خاصة في الأوقات العصيبة، عندما كانت تضيق بي الدنيا كطفل وكمراهق كنت ألجأ للفن. في فترة من فترات حياتي أحببت الغناء، وفي فترة أخرى انشغلت بالرسم، وفي فترة ثالثة شغفتُ بالتمثيل، حتى اكتشفت القراءة. يقال إنك لا تحب القراءة حتى تجد الكتاب المناسب، وكان هذا الكتاب بالنسبة لي هو رواية موسم صيد الغزلان للكاتب أحمد مراد. كنت أواجه صعوبة في القراءة في البداية، لا أفهم معظم الكلمات، وأنام بينما أقرأ فتسقط الرواية فوق وجهي. حتى اكتشفت الكتب الصوتية، لقد استمعت للرواية بالكامل بين منتصف الليل والصباح، ونمت لأستيقظ مقرراً أن أصبح كاتباً! واكتشفت فيما بعد أنه لكي تكون كاتباً جيداً من الضروري أن تحصل قدر من المعرفة بالفنون الأخرى، فعرفت قيمة انشغالي بغير الكتابة من فنون فيما سبق. 

حينها لم يكن لدي أي خطة واضحة عن المستقبل، لا أعرف ماذا سأدرس، وماذا سأعمل، ولكني أعرف هنا والآن أنني أريد أن أكتب. وبدأت المعركة بيني وبين الوالد، معركة انتهت بأن صفعني للمرة الأولى ربما في حياتي، ولم تعد علاقتنا كما كانت بعد هذه الصفعة، أكاد أتصور أن حياتي بالكامل قبلها تختلف عن حياتي بعدها، موقف لم ينتهي في رأسي وفي داخلي حتى هذه اللحظة، ولا أظن أنه سينتهي مهما حدث! 

بعد وقت قصير ظهر علاء في حياتي، ظهرت قصة صوت داخلي، إنها القصة الأهم بالنسبة لي على الإطلاق، كتبتها أكثر من عشر مرات، في كل مرة كنت أعود إليها بعد اكتشاف شيئاً جديداً عن نفسي وعن أزمتي. هي ملاذي، هي أجمل ما حدث لي في حياتي. وفيما يبدو سيكون هناك جزءاً ثانياً منها.

ومن بعد صوت داخلي في المرتبة الثانية تأتي معالجتي، لقد ذهبت إليها بعد عامين من الحرب ضد الأب، أنقذتني من الجحيم، أخرجتني من الظلمات إلى النور. وقد كنت مواظباً على حضور الجلسات، دؤوباً في العمل على تطوير نفسي نفسياً، تحليل أفكاري ومشاعري ومناقشة معتقداتي الراسخة. كان العمل على نفسيتي فرصتي الوحيدة للنجاة، لم أملك رفاهية التكاسل، شدة صعوبة حياتي كمتلعثم دفعتني دفعاً نحو الاجتهاد في العلاج، خاصة لمّا لم أقو على تنفيذ هاجس الانتحار، فقررت أن أحيا. 

 الآن أنا متخرج من معهد السينما، لدي موقع إلكتروني أنشر فيه كتاباتي، بعد خمسة أعوام من الكتابة لنفسي وجمهوري الصغير من الأصدقاء والمقربين. أعفيت من التجنيد لأنهم يرفضون المتلعثمين، حين يصبح الرفض شيئاً إيجابياً! تطوعت لمدة سنة في مركز الجزويت وعملت فيه كسكرتير لمدة أربعة أشهر. لم أصبح كاتباً مشهوراً، إنجازاتي ما تزال صغيرة محصورة في أطر محدودة، ولكني سعيد بها رغم كل شيء.

الآن أنا على أعتاب مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة أنا فيها القائد، أقود فعاليات ثقافية مثل التي تدربت على تنظيمها في الجزويت. أشرف على مشروعات كتاب آخرين كمرشد متخصص في الكتابة. أكتب عن نفسي بحرية وصراحة، دون إطار درامي، على أن أعود لهذا السلاح الساحر لمّا يحين وقت الجزء الثاني من صوت داخلي، لست مستقر مادياً ولكني في طريقي لتحقيق ذلك.

أود أن أختم سيرتي الصغيرة بقول إنني ممتن لكل ما فعلت، وراض تماماً عن اختياراتي، وفخور أشد الفخر بحياتي التي فرضتها رغم أنف كل من حاول أن يعتدي على حريتي، إن مت الآن سأقابل الموت بنفس هادئة مطمئنة، نفس حرة كما خلقها الله.

الحرية، الحرية، الحرية.. 

تمسكوا بالحرية.

تمت.

2 تعليقات

أحدث أقدم

نموذج الاتصال