صوت داخلي - قصة قصيرة - الفصل الثاني

* * *
صوت داخلي - قصة قصيرة

لتجربة أفضل:

* * *

خيوط العنكبوت تسكن معظم أركان سقف الصالة، ومن المؤكد تسكن معظم أركان سقف غرفتي ولكني لا أراها، نور الصالة أسوأ من ظلام الغرفة إذ يكشف حقيقة بيتنا التي نخجل بسببها من استقبال أي ضيوف، وذلك بسبب عدم مهارة ماما في العناية بالبيت، منذ أن انتقلنا إلى الإسكندرية لا أذكر أني رأيتها مرة واحدة تنظف البيت. لما خرجت كان بابا يستعد للرحيل إلى بيته الثاني، بابا أسمر الوجه واليدين، ولكن لونه الأصلي أكثر بياضاً، مثل لوني تقريباً. كان الجميع موجوداً في البيت باستثناء إسلام الأخ الأصغر، كان في الشارع. سيف كان جالساً ينتظر الطعام، محمود يصفف شعره استعداداً للخروج، وأمي كانت بالمطبخ. حاولت أن أتكلم لكن عجزت، فتظاهرت وكأنني خارج لتناول الطعام، تحركت تجاه السفرة وعبثت بالأطباق الموضوعة فوقها 

- عايز فلوس عشان نازل

كان ذلك محمود، الذي كان يرتدي ملابس ممشوقة على نحافته، قالها بلهجة صعيدية، فجميعنا داخل المنزل نتكلم بلهجتنا الأصلية، ولكن خارج البيت نتخلى عنها، هل يصح وصفنا بالتخلي عن هويتنا؟ لقد درسنا في منهج اللغة العربية هذا العام أن الشعوب التي تتخلى عن لغتها تكون خادمة لا مخدومة وتابعة لا متبوعة، ولكننا لو تكلمنا بلهجتنا الأصلية لسخر منا السكندريون، لا أدري، ولكننا لا نقوى على تحمل السخرية أو الشعور بالاختلاف.

- ما سايبلك خمسة جنيه يبن الكلب

رد عليه بابا بنبرة ساخرة، فصرخ محمود بعصبية:

- خمسة ايه اللي أنزل بيها دي

ولم يستطع سيف ألا يتدخل فقال:

- لا أقل حاجة خمسين

ازداد محمود غضباً، وتعالى صراخهم، فيما كنت مستمراً في العبث بالأطباق محاولاً التكلم دون جدوى، قررت أن أقول شيئاً غير الذي أريد، ومن عجب أنني أستطيع أن أتكلم حين أقول ما لا أريد قوله:

- ماما ايه الغدا؟

- دقيقة أديناا عنعملووا

صرختْ من المطبخ بغير داعٍ، فرد عليها بابا بنبرة تهكم:

- متزعقيلهمش.. أنا مخلف رجالة عشان أنتي تزعقيلهم؟

- داهية تحشر أمواتكم

- متدعيش ع العيال يا زفتة أنتي ميت مرة قولتلك

في طفولتي كنت أدعوا الله سراً أن يميت ماما ويبقي بابا حياً، خاصة حينما كنت أطلب منها شيئاً فتدعو عليّ قائلة: "داهية يبتليك بشعراية دم.. داهية يبتليك بعقربة تكون مريشة"، لم أعرف حتى الآن معنى دقيق لكلامها. وكان بابا دوماً هو الحنون الودود وهي الغاضبة بغير سبب، وقد دفعني دفاعه عني إلى القدرة على التكلم إلى حد ما، فقلت وقد حاول بابا الاهتمام بما أقول رغم تلعثمي:

- ع..عايز.. بكره......... فلوس

- لوليتا أنت تؤمر.. عايز كام؟

- ......... مية وخمسين

- أنا معييش غير عشرين هروح بيها بس اتصرفلك بكره.. أنت عايزهم امتى؟ 

- بكره السـ.. اتنين

- ده أنا هاجي يمكن تلاتة.. طب ما تغيب بكره؟

كم سأكون محظوظاً بتأجيل المواجهة ولو ليوم واحد، وافقتُ، وجلستُ على إحدى الآرائك بالقرب من بابا

- مش لسة جايالك فلوس

سأل سيف بابا فرد الأخير:

- ما عمك عصام خد منهم

- تاني؟

- واخد عشرتلاف وكل فلوس تيجي عليها دمغة

- إهت!! *(لفظ تعجب صعيدي)

- أخويا الكبير مقدرش أقوله حاجة.. أهدى أنا هتصرف.. معاكي يا هدى؟

أجابته ماما من المطبخ بصوت عالٍ:

- معايا منين يعني مش معاك الفيزا وواخد المرتب!!

- مممم يا نصابة؟ يعني مش مدكنة حاجة كدة ولا كده ناوية تبعتيها لاخواتك؟

- يارب ايدي تتشل لو شايلة حاجة عن ولادي

خرجت ماما من المطبخ لتقول بحماس:

- طب ماير.. طب بص اسمعني.. 

قال بابا ضاحكاً:

- سامعينك قولي

- يروح ويقولهم الحصة الداية 

- لا ولدي ما يكسفش نفسه مع حد

- آنا معارفاش ايه الكبر اللي فيكم دِه!

ماما أكبر من بابا في السن، وتبدو كذلك أكبر من سنها، تربط وشاحاً صارماً على شعرها، وملامحها عابسة دائماً، توحي بقسوة لا تتناغم وما ترتديه من بيجامة منزلية زرقاء فاقعة! لاحظت ذلك فغضضت بصري، وعلق بابا:

- مش قلتلك غيري الترنج ده.. متقعديش قدام الرجالة ببنطلون

قال سيف وقد لاحظ أنها تركت الطعام واهتمت بشيء آخر:

- خلصتي الرز؟

- ع النار

- طب يلا

- حاضر يا أبيه سيف

عادت للمطبخ، وتوقف محمود عن تصفيف شعره وحدث بابا:

- طب شوف حل انا معاينفعش انزل كده

- يابن الكلب انت لسة ف نفس الموضوع؟

- أيوة لسة ف نفس الموضوع.. مانت عند حاجة علاء تتصرفله

ضحك بابا:

- طبعاً اتصرفله، أحسن واحد فيكم.. راجل محترم.. واخد باله من دروسه.. لا شاغل باله ببنات ولا قلة أدب

آلمني أنه يراني بهذه الصورة المثالية

- والله ما عارف انت ازاي سايبهم يسيحوا ف الشوارع ليل ونهار كده؟!

كان ذلك سيف معلقاً على خروج محمود وإسلام المستمر

- لا ما خلاص مفيش دلع بعد كده

رد محمود منفعلاً:

- نسيحوا أحسن ما نستتوا

سخر سيف من عصبية محمود وقلد تعبيراته ونبرته بشكل مستفز، وقال بابا لمحمود:

- أنا ساكتلك م الصبح ومكبر دماغي هتسوق فيها.. كلم أخوك الكبير كويس.. عايز فلوس تعمل بيها ايه؟

- ايه اللي اعمل بيها ايه ما هينزلوا هما يتفرجوا ع ماتشات

أفضى لي بابا يوماً أنه حزين على أخوي محمود وإسلام، إذ يخرجان كثيراً وأخلاقهم متردية، بعكس ما كنت عليه أنا وأخي الأكبر سيف، فقلت له ببساطة إن الأمر يرجع إلى أنك في طفولتنا كنت تجلس معنا كثيراً، تعلمنا كيف نتصرف في كل كبيرة وصغيرة، أما الآن فأنت لم تعد تفعل بالمثل مع الصغار، بل إنك انشغلت بالزواج والإنجاب، وإننا حتى لم نعد نجلس على مائدة طعام مثل السابق، بل بات كل منا يأكل بمفرده وقتما يشاء. لذا قررت أن أدافع عن محمود، فتحت فمي لأتكلم، عجزت أول الأمر قبل أن أنطق الكلمات دفعة واحدة:

- لو ماتش مهم.. يبقـ...

انتهرني سيف بحدة فظيعة:

- خليك ف حالك انت.. لما حد يسألك أبقى اتكلم

احتقن وجهي بشدة ودمعت عيناي، نظرت إليه بتجهم شديد ثم إلى بابا وقلت بصوت باكٍ:

- طب ايه ده طيب؟

تجهم بابا لكنه تحدث إلى سيف برفق:

- بس أتلم

استمر سيف في نبرته بغير اهتمام:

- كل شوية ينط ف الكلام.. عامل زي فرقع لوز.. مش كل الكلام يتدخلوا فيــه

- طب خلاص

رمقت بابا بتعجب، هل هذا كل ما تقدر عليه؟! قبل أن يتكلم محمود:

- عايز أنزل طيب

صرخ بابا بأعلى صوته فانتفضتُ خوفاً:

- عايز ايه يابن الكلب؟!

- عايز ايه؟ احنا عنتكلموا ف ايه!!

- ده ابن الواطي ما يسكتش غير لما يخليني ازعق، الناس تقول علينا همج!

اشتعل البيت بصراخ بابا، لعن محمود وتربيته، ولام ماما لأن أخلاقنا ترجع إلى سلوكها السيء في التعامل معه كزوجة وكأم. شعرت وكأن سحابة دخان تغشي صدري وتكتم أنفاسي، تراجع محمود وقرر ألا يخرج، بينما بقيت أنا مكاني أقاوم البكاء.

الفصل الثالث

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال