* * *
تحركتْ عيناي إلى النافذة فرأيتُ إحدى أطفال الشوارع بالخارج، تطلب الرزق من زبائن مقهى الفيشاوي المستأنسين بأشعة الغروب الدافئة شتاءً على الرصيف. تحمستُ لإعطائها الحسنة بأفضل أسلوب ممكن حين تدخل، فمن المؤكد صرفها الكثيرون بجفاء قبل أن تنطق أو ربما قبل أن تصل إليهم.
بعد دقائق، شارداً لمحتُ قدمين صغيرتين وقفتا بجواري وقد شملتهما طبقة ترابية، طينية عند مفارق الأصابع، أدركت سريعاً أني أخطأت في تقدير مسافة انتقالها من السعي بالخارج إلى الداخل، وخشيت أن تحسبني متجاهلاً أو متعالياً. قالت شيئاً لم أتبينه بينما انتفضتُ منهمكاً في إخراج الأموال ومناولتيها، لكن وجدتها غير مستجيبة ليدي الممدودة ببضع عملات فضية فرفعتُ عيني إلى وجهها، صغيرةٌ شحبها الشقاء ومحت الحاجةُ طمأنينة نفسها، على ما في ملامحها من نضج خليق بامرأة ثلاثينية لم تخف وداعة طفلة في العاشرة.
قالت لي بقوة وعينيها صوب عيني:
- أنا مابشحتش.. أشتري مني!
المقهى من منظور الحشرات بدا شديد الاتساع، جدرانه ممتدة إلى غير نهاية، تحاول استيعاب ما بثته كلماتها من كبرياء دون جدوى. نظرت إلى بضاعتها التي لا ينظر إليها الناس أبداً، وفي خزي حاولت تصليح الموقف متبسماً:
- بتبيعي ايه؟
- كراريس تلوين.. الصغيرة بسبعة والكبيرة بخمستاشر
- هاخد واحدة صغيرة
ناولتني إحدى الكراسات الصغيرة، ميَّزتُ شبح ابتسامة على طرفي شفتيها، فهدأتْ من خجلي وسمحتْ لحجمي المتضائل بالقليل من التمدد.
ناولتها عشرة جنيهات فسألتني:
- معاكش فكة؟
أومأت لها أن: "خلاص بقى"، فانبسط وجهها عن ابتسامة بلغ بكمالها تمدد حجمي إلى ما يقارب حجمها، وابتسمتُ لها من كل قلبي. انصرفتْ وتنازلتُ عن رغبتي في الحجم الأول مؤثراً ما تركتني عليه ابتسامتها، وما بثه رضاها بالمساعدة اللائقة من ارتياح وإدراك.